سورة الصافات - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الصافات)


        


{إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)}.
التفسير:
بعد أن عرضت الآيات السابقة، موقف الحساب، والمساءلة لأهل الكفر والضلال، وسوقهم إلى الجحيم، وتجرعهم غصص العذاب- جاءت هذه الآيات لتعرض أصحاب الجنة، أهل الإيمان والعمل الصالح، وما يلقون من نعيم ورضوان.
قوله تعالى: {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} هو استثناء من الاسم الموصول في قوله تعالى:
{وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
ويكون الضمير في تجزون للناس جميعا.. أي ما يجزى الناس إلا بما كان لهم من عمل، إلا عباد اللّه المخلصين، فإنهم يجزون أضعاف ما عملوا، فيقبل اللّه منهم حسناتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، فضلا منه وإحسانا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا} [37 سبأ].. أما أصحاب النار، فإنهم يجزون بما عملوا.. كيلا بكيل. ومثقالا بمثقال.
والمخلصون من عباد اللّه، هم الذين أخلصوا دينهم للّه، فلم يشركوا به شيئا، ولم يجعلوا ولاءهم لغيره.
قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ} هو بعض ما يجزى به عباد اللّه المخلصون:
{لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} أي معدّ وحاضر لهم.. {فَواكِهُ}.
هى بعض هذا الرزق.. وخصّت بالذكر، لأنها مما يتفكه به بعد الطعام، إذ هى مما يناله المترفون في حياتهم، بعد أن يأخذوا حاجتهم من الطعام.. {وَهُمْ مُكْرَمُونَ} أي أنهم ينالون هذا الرزق، وهم في موضع الاحتفاء والتكريم.
{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} متعلق بمكرمون.. أي أن منزل إكرامهم والاحتفاء بهم، هو جنات النعيم.. {عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ} حال أخرى من أحوالهم، وهم في هذا المنزل الكريم.. إنهم على سرر، يواجه فيها بعضهم بعضا، ويأنس بعضهم إلى بعض، كما يقول سبحانه: {عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ} [15- 16 الواقعة].
والسّرر: جمع سرير، والسّرير، المقعد المنضّد.
وقوله تعالى: {يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ}.
أي ومما يطرف به أصحاب الجنة، أنّه يطوف عليهم السّقاة بكئوس صافية الأديم، كأنها الماء يتفجر من {معين} أي من عيون.. والطائفون، هم غلمان مخلدون، كما يقول سبحانه: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [16- 17 الواقعة].
وقوله تعالى: {بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} وصفان للكأس، فهى بيضاء صافية، وهى ببياضها وصفائها، تلذّ الناظر إليها، وتملأ عينه بهجة وحبورا.
وقوله تعالى: {لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ} أي ليس في الشراب الذي تحمله هذه الكأس، مما يغتال العقول، ويذهب بصوابها، كما تفعل الخمر برأس شاربها.. {وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ} أي لا يصدّون عنها، ولا يزهدون فيها، لأنها لا تستنزف لذتهم منها، بل تظلّ هكذا لذة دائمة موصولة.. وقد جاء في قوله تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ} [19: الواقعة] جاء بكسر الزاى، بنسبة الفعل إليهم، على حين جاء في الآية السابقة بفتح الزاى {ينزفون} بنسبة الفعل المسلّط عليهم إلى غيرهم.
وذلك ليجمع بين صفتهم، وصفة الخمر التي يشربونها.. فهى من شأنها أن تمسك شاربها عليها، لطيبها وحسنها، ولذتها.. وهم- بما أودع اللّه فيهم من قوّى- يتقبلون هذا النعيم، فلا يزهدون فيه أبدا.
قوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}.
أي وعند أصحاب الجنة، وبين أيديهم، فتيات {قاصِراتُ الطَّرْفِ}.
والطرف، هى العين، وقصر الطرف، كسره، حياء وخفرا.. وهذا كناية عن صغرهن، وأنهن لم يلقين الرجال، ولم يتصلن بهم.. {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}.
(56: الرحمن) والعين، جمع عيناء، وهى واسعة العينين، في كمال وجمال.. وفى هذا احتراس مما قد يفهم من وصفهن بأنهن قاصرات الطرف، أن هذا القصر عن داء بهذه العيون، وأن خلقتها هكذا مغلقة، أو متكسرة.
وكلّا، فإنها في حقيقها عيناء.. ولكنه الحياء، والخفر، قد أمسكا بها عن أن تمتلىء بالنظر الحادّ، إلى الرجال!.
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} وصف لألوانهن، وأنهن بيضاوات، كأنهن البيض المكنون، أي المحفوظ من الشمس، والغبار.
تحت أجنحة الطير.. فهو باق على بياضه ونقائه.
وفى تشبيه لون بشرة المرأة بالبيض المكنون، إعجاز من إعجاز القرآن في دقة الوصف، وصدقه.. فالبيض المكنون تحت أجنحة الطير، يضم في كيانه حياة يغتذى منها قشر البيض نفسه، كما تغتذى بشرة الجلد في جسد الكائن الحىّ.. ثم إن هذا البيض يحمل في كيانه الحياة في مطلع نموها، واكتمالها.
فهى إذن ليست حياة مولية، وإنما هى حياة مقبلة، كتلك الحياة التي في كيان هؤلاء الفتيات من حور الجنة.. فالقشرة التي تحتوى البيضة، تشير إلى ما في كيانها من حيوية متدفقة.. تماما كتلك البشرة التي تحتوى جسد الشباب المتدفق حياة وقوة!.
قوله تعالى {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ}.
الفاء في {فأقبل} للسببية، أي أنهم وقد جلسوا على سررهم، متقابلين، وطعموا ما اشتهوا من طعام، وشربوا ما طاف عليهم من كئوس الشراب- لم تبق عندهم إلا لذة الحديث، فأقبل بعضهم على بعض، يتساءلون، ويتسامرون.
وكما أقبل أصحاب النار بعضهم على بعض يتساءلون، كذلك أقبل أصحاب الجنة بعضهم على بعض يتساءلون.. ولكن شتان بين تساؤل وتساؤل، وحديث وحديث.. إنه هناك- كما رأينا- كان اختصاما، وكان اتهاما، وكان تراميا بالشناعات واللعنات..!
أما هنا، فهو حديث الأحبّاء الأصفياء.. يتساقون به كئوس المودة والإخاء.
قوله تعالى: {قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ}.
وهذا من بعض ما يتحدث به أهل الجنة بعضهم إلى بعض.. فقال أحدهم: إنى كان لى في الدنيا قرين.. أي صاحب قد جمعتنا الصحبة في قرن واحد.
ويصغى أهل المجلس إلى هذا الحديث، وما كان من شأن هذا الصاحب مع صاحبهم هذا!.
{يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ}.
أي أن هذا الصاحب، كان مما يحدّث به صاحبهم هذا، أن يشككه في أمر البعث، وأن يكشف له عن استحالته بما يضرب له من أمثال، في هذه العظام البالية، وهذا التراب الذي صارت، إليه العظام، وأن لبسها الحياة بعد هذا، أمر لا يصدقه عقل، ولا يقبله عاقل..!! إنه كان يراود صاحبه على أن يترك هذا المعتقد الذي يعتقده في البعث، والحساب والجزاء، ويقول له ما كان يتردد على ألسنة أهل الشرك:
حياة، ثم موت، ثم بعث؟ حديث خرافة يا أمّ عمرو!
فهذا الاستفهام الذي كان يلقى به هذا المشرك إلى صاحبهم هذا- هو استفهام المنكر، الساخر.
وقوله: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} أي أإنا لمحاسبون، والدينونة، هى الحساب.
أي أنحيا بعد أن نصير ترابا وعظاما، ثم نحاسب، وندان، ونعذب في النار كما يقول محمد بهذا؟.
وطبيعى أن صاحبهم هذا لم يستجب لهذا الضلال، ولم ينخدع لصاحبه المشرك.. ولهذا كان معهم في هذا المنزل الكريم.. وطبيعى أيضا أن صاحبه قد أخذ طريقه إلى جهنم.
{قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}.
أي هل أنتم أيها الصحاب الكرام، ناظرون إلى أين استقر المقام بصاحبى هذا؟ إنه هناك في جهنم! ها هو ذا فانظروا إليه، وإلى ما هو فيه!! {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ} وألقى بنظرة إلى حيث النار وأهلها.. فرأى صاحبه في {سَواءِ الْجَحِيمِ} أي وسط الجحيم، يأخذ مكانا متمكنا منها.. فلقد كان داعية من دعاة السوء، ورأسا من رءوس الكفر.
{قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}.
ولا يجد صاحبهم ما يقوله لصاحبه، إلا أن يتبرأ منه في الآخرة، كما تبرأ منه في الدنيا.. إنه ينظر إليه غير راحم، إذ كان- لو لا رحمة اللّه به، وإحسانه إليه- لو اتبعه، وأخذ طريقه معه، أن يكون قرينه في هذا البلاء الذي يعانيه، وهذا العذاب الذي يكتوى بناره!.
{أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}.
وإنه، وقد أمسك بهذا النعيم العظيم، الذي يخيل إليه- من عظمته، وطيبه- أنه في حلم يخشى أن يستيقظ منه إنه ليسأل أصحابه هذا السؤال الذي يريد أن يعرف به، هل هو في حقيقة أم في حلم: {أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ؟} أحقا لا نموت بعد هذا ولا نفارق هذا النعيم الذي نحن فيه؟ إنه ليعلم هذا يقينا، ولكن يريد علما يثبّت علمه، ويقينا يؤكد يقينه.
وفى قوله: {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى} هو استثناء داخل في عموم المستفهم عنه، وهو الموت.. أي أفما نموت إلا هذه الموتة الأولى التي بعثنا منها؟ ألا يكون بعد هذا البعث موت.. ثم بعث..؟ ثم إذا كانت هذه الموتة هى آخر موتة، وكان هذا البعث آخر بعث- فهل نظلّ على حالنا هذه من النعيم الذي نحن فيه؟ ألا تتغير بنا الأحوال، كما كان شأننا في الحياة الدنيا؟ ألا يمكن أن تتبدل حالنا، فنعذب كما يعذّب هؤلاء المعذّبون في النار؟
إن هذا كلّه يكشف عن أمرين:
أولهما: ما يجد أصحاب الجنّة من نعيم عظيم، لم يقع في تصوراتهم، ولم يطف بخيالهم.. فهم يحرصون عليه أشدّ الحرص، ويتمنّون الخلود فيه، وقد وعدهم اللّه الخلود في جنات النعيم.. كما يقول سبحانه: {خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا}.
وثانيهما: ما يراه أصحاب الجنة أيضا، من هذا العذاب الذي يلقاه أصحاب النار.
فهم لهذا يفزعون منه، ويخشون أن يكون لهم نصيب منه.. وقد أمّنهم اللّه شرّ هذه الخواطر المزعجة.. فكانت تحيتهم من الملائكة دائمة موصولة، بقولهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ} [73 الزمر].. {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [23- 24: الرعد].
قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
هو الجواب الذي يجيب به هذا المتحدث إلى أصحابه، على ما كان يسألهم هو عنه في قوله: {أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}؟
إنه تجاهل العارف لما يعرف، ليزداد يقينا بما عرف، واستيقانا منه.. ولهذا فهو يسأل، وهو يجيب: {إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
فأى فوز أعظم من الظفر برضا اللّه، والخلود في جنّاته؟
جعلنا اللّه من أهل الفوز برضاه، والخلود في جنات النعيم.
قوله تعالى: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ}.
هو تعقيب على هذا الحديث الذي كان بين أصحاب الجنة، وما تكشف فلمثل هذا المقام يسعى الساعون، ولمثل هذا المنزل يعمل العاملون.
وكل سعى إلى غير هذا المقام، هو سعى باطل، وكل عمل لغير هذا المنزل هو عمل لا يعقب إلا الحسرة والندامة.


{أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}.
؟
هو خطاب للمشركين، وأهل الكفر والضلال.. والمشار إليه هو هذا النعيم الذي ينعم فيه أصحاب الجنة.. أي أىّ خير: أهذا المنزل الكريم، والنعيم العظيم الذي يلقاه أهل الجنة.. أم شجرة الزّقوم هذه، التي هى طعام أهل الشرك والضلال؟.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [43- 46 الدخان].
قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} أي إنا جعلنا ذكرها والحديث عنها في القرآن، فتنة لأهل الظلم والعناد من هؤلاء المشركين، وكانت- لو عقلوا- مزدجرا لهم، وطلبا للنجاة منها.
ولكنهم اتخذوها مادة للتفكه والسخرية، وقال قائلهم: انظروا إلى ما يحدّث به محمد!! إنه يعدنا بشجرة تنبت في النار، وتطلع وسط اللهب! أرأيتم شجرا تقوم أصوله وفروعه في النار، فيكون منها ريّه، ونماؤه، ويطلع في أحشائها زهره وثمره؟ وهكذا يظلّون في هذا اللغو من القول، غير ملتفتين إلى ماللّه سبحانه وتعالى من قدرة لا يعجزها شىء، وغير واقفين عند ما لفتهم اللّه إليه في قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}! أو ليس الذي جعل من الشجر الأخضر نارا، بقادر على أن يجعل من النار شجرا أخضر؟ أليس هذا من ذاك؟
قوله تعالى: {إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ}.
أصل الجحيم: قراره- والطلع: الزهر الذي ينعقد عليه الثمر.
وفى تشبيه هذا الطلع برءوس الشياطين، إشارة إلى بشاعتها مظهرا، الذي ينمّ عن مخبر هو أشد منه بشاعة.
والشياطين، وإن لم يكن لها صورة حقيقية تعرف بها، إلا أن لها صورة متوهمة في خيالات الناس وتصوراتهم، وهى صورة بشعة مخيفة.. وإذا كانت رأس الشيء هى أظهر ما فيه، وأدل شيء على حسنه أو قبحه، فقد اختير من الشياطين رءوسها التي تتجمع فيها بشاعة الشياطين وقبحها.
قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ} الفاء للتفريع.. أي وينبنى على وجود هذه الشجرة في أصل الجحيم، أن يأكل منها هؤلاء المجرمون، حتى لكأنّ هذه الشجرة ما غرست ونبتت في الجحيم، إلا ليكون منها طعامهم.
وامتلاء بطونهم منها، ليس عن شهوة أو رغبة، وإنما هو عن قهر وقسر.
إمعانا في عذابهم، والتنكيل بهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ}.
الشوب: المختلط بغيره من كل شىء، ومنه الشائبة، وهى ما يعلق بالإنسان من أمور لا تليق به، والحميم: السائل الذي اشتد غليانه.
ومع كل طعام شراب.. وإذا كان طعام هؤلاء الأشقياء هو من ثمر تلك الشجرة الجهنمية، فإن شرابهم كذلك هو مما ينبع من عيون هذا الجحيم.
وفى قوله تعالى: {عَلَيْها} إشارة إلى أن مورد الحميم، هو قائم عند هذه الشجرة.. والمعنى، أن لهم عند وردهم على هذه الشجرة، وأكلهم منها، شوبا من حميم، أي أخلاطا من سوائل تغلى وتفور.
ويجوز أن يكون {على} بمعنى فوق أي أن لهم فوق هذا الطعام الذي طعموه من شجرة الزقوم- لهم فوق هذا، شراب من حميم، وكأن ذلك مبالغة في إكرامهم، على سبيل السخرية والاستهزاء، والمبالغة في النكال والعذاب؟.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ}.
أي ثم يقادون بعد أن يأكلوا ويشربوا، إلى حيث مربطهم، ومنزلهم.
فالشجرة التي يطعم منها الآثمون قائمة في قعر جهنم، فيساق إليها هؤلاء الآثمون، حتى إذا أكلوا من ثمرها، وشربوا من الحميم الذي يجرى تحت أصولها، أعيدوا إلى حيث كانوا.. وهكذا يغدون ويروحون في أودية جهنم! قوله تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ}.
هو تعليل لما فيه هؤلاء الآثمون الخاطئون، من عذاب عظيم، وبلاء مقيم.
إنهم ضلّوا عن سواء السبيل، ولم يستمعوا إلى ما جاءهم من نذر، ولم يقبلوا ما دعوا إليه من هدى.. بل إنهم وجدوا آباءهم على ضلال، فمشوا على آثارهم، واتبعوا خطوهم، وقالوا: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [22: الزخرف].
ويهرعون: أي يسرعون من غير توقف.. إذ لم يكن لهم عقول يرجعون إليها، ويعرضون ما يعرض لهم من أمور عليها.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ}.
هو عزاء كريم للنبى الكريم، ومواساة له في الضالين من قومه. إنهم ليسوا أول الضّالين، ولا آخرهم.. فلقد ضلّ قبلهم أكثر النّاس، وقليل هم المؤمنون {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [103: يوسف].
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
هو تطمين لقلب النبىّ.. وأن اللّه سيدفع عنه كيد هؤلاء الضالين، كما فعل بالمرسلين من قبله، إذ نجاهم والمؤمنين معهم. من كيد الكافرين، الذين أخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر.
وفى قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
تهديد لهؤلاء المشركين، وجمع بينهم وبين من أهلكهم اللّه من المكذّبين برسل اللّه، على مورد الهلاك، وسوق لهم جميعا إلى عذاب الجحيم.
قوله تعالى: {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}.
هو استثناء من {المنذرين} في قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
أي فلقد أهلكناهم، إلا عباد اللّه المخلصين، والذين استجابوا لرسل اللّه، وأخلصوا دينهم للّه.. ووقع الفعل على المنذرين جميعا، إذ كانوا هم الكثرة الغالبة الذين أهلكهم اللّه.
أما المؤمنون، فهم قلة قليلة مستثناة من هذا الطوفان الكبير.
والمخلص: هو من اختاره اللّه للهدى من بين هذا الركام، وصفّاه من شوائب الضلال الضارب بجرانه على القوم.


{وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ}.
فى هذه الآية والآيات التي بعدها، تفصيل لما أجملته الآيتان السابقتان عليها، وهما قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
فهذا نوح عليه السلام، قد أرسله اللّه سبحانه، نذيرا إلى قومه، كما يقول سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} [1: نوح].
ولقد أنذر نوح قومه، وبالغ في إنذارهم، فلم يستمعوا له، ولم يقبلوا منه قولا.. فلما يئس منهم لجأ إلى ربه شاكيا: {قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً} [5- 7: نوح].
فلما بلغ به اليأس مداه، دعا ربه أن يأخذهم بعاجل ذنوبهم: {وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً} [26- 27: نوح].
وقد استجاب اللّه لنوح، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} أي نادانا نوح مستغيثا بنا، فأجبناه.. فنعم المجيبون نحن، حيث يجد من يجيبه إلى طلبه.. ويمنحه نصرا عزيزا وفتحا مبينا.
فتباركت يا اللّه وتعاليت.. وخاب من طرق بابا غير بابك، ووجه وجها إلى غير وجهك!.
{وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}.
معطوف على قوله تعالى: {وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ} أي دعانا نوح، فاستجبنا له، {وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي من البلاء العظيم، الذي أخذ الظالمين، وهو الطوفان!.
{وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ}.
وإذ كان المؤمنون هم أهله، وهم الذين نجوا من هذا الطوفان، فقد كان منهم ذريته التي بقي بها نسله، جيلا بعد جيل.
{وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}.
أي وتركنا عليه ثناء طيبا، باقيا في الأجيال من بعده.
{سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ}.
هو سلام من اللّه سبحانه وتعالى على نوح في مجتمعات الإنسانية كلها، يردده كل مؤمن باللّه، وبرسل اللّه.
{إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}.
أي بمثل هذا الجزاء الحسن نجزى أهل الإحسان من عبادنا، الذين آمنوا باللّه وعملوا الصالحات.
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}.
أي بعد أن نجينا نوحا ومن معه، أغرقنا الذين حق عليهم القول منّا.
وقدّم نجاة نوح ومن معه، إظهارا للعناية به وبالمؤمنين.. إذ المطلوب أولا هو نجاتهم من هذا الكرب العظم.
هذا، والطوفان الذي أهلك به قوم نوح، ليس طوفانا عامّا شمل الدنيا كلها، وغطى وجه الأرض، كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين.
وإنما هو- كما قلنا- طوفان إقليمى محدود.. وقد عرضنا لهذا الأمر بالتفصيل في سورة هود.
وهذا إبراهيم- عليه السلام- يجىء منذرا قومه.
فيقول سبحانه: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ}.
أي أن من شيعة نوح وأنصاره، والقائمين على دعوته من بعده، إبراهيم وشيعة المرء، أولياؤه وأنصاره.
وحسب إبراهيم- عليه السلام- من شيعة نوح، لأنه كان على الإيمان، بفطرته، فلم تستحب فطرته لعبادة صنم.. فكأنه بهذا كان ممن آمن مع نوح، وركب معه السفينة، وكان من الناجين.. ثم إن إبراهيم قد اعتزل قومه، وتركهم لضلالهم يتخبطون فيه حتى يهلكوا، كما فعل نوح باعتزاله قومه بركوب السفينة تاركا إياهم للبلاء الذي حلّ بهم.. ولهذا كان إبراهيم أمة وحده، كما يقول اللّه تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [120: النحل].
{إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
أي أن إبراهيم كان على نهج نوح وطريقته، حين جاء ربه، أي أقبل على ربه {بقلب سليم} أي قلب قد سلم من آفات الشرك والضلال، فلم تعلق بفطرته شائبة، بل ظل على الفطرة التي فطره اللّه عليها، لم يدخل عليها شيء من غبار الشّرك، الذي كان يسدّ وجه الأرض.
{إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ} بدل من قول اللّه تعالى: {إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
أي أن إبراهيم كان شبيها بنوح، حين قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون؟ أي منكرا عليهم تلك المعبودات التي يعبدونها من دون اللّه.. فهو ونوح على طريق سواء.
{أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}.
الإفك: الباطل والمفترى من الأمور.
وآلهة: بدل من إفكا والاستفهام إنكارى، أي أتطلبون آلهة من واردات الإفك والافتراء، بدلا من اللّه رب العالمين؟ أليس ذلك سفها وجهلا، وكفرا؟.
{فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ}.
أي فما معتقدكم في رب العالمين؟ وما تصوركم له؟ وما حسابه عندكم؟
أهو واحد من آلهتكم تلك؟ أم هو على هيئة ملك أو أمير، أو سيد من ساداتكم؟.
{وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ}.
(23: فصلت).
فاللّه سبحانه وتعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [103: الأنعام].. إن اللّه- سبحانه- هو مبدع هذا الوجود، وهو القائم عليه، وبيده ملكوت كل شىء.. فكيف تعبدون إلها غيره؟ وكيف ترضون لعقولكم أن تقبل هذه الأحجار آلهة، تتعامل معها، وتتخاضع بين يديها، وتجعلها شريكة للّه في الملك والتدبير؟.
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ}.
النظرة التي نظرها إبراهيم في النجوم، هى، ما أشار إليه سبحانه في قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [75- 79: الأنعام].
وسقم إبراهيم هنا، هو سقم نفسى، لما اعتراه من حيرة خلال تلك التجربة التي عاناها مع هذه الكواكب، التي ظل يرصدها ليلة بعد ليلة، ويرعى مسيرتها، ويتأمل وجهها مشرقة وغاربة.. فإذا أشرق واحد منها لقيه حفيّا به، راجيا أن يكون الوجه الذي يرى فيه ربه الذي يعبده، ثم إذا رآه يغرب خاب ظنه فيه، فنفض يديه منه، كما ينفض المرء يديه من ميت دفنه في التراب.. وهكذا ظل إبراهيم يستقبل وجوه الكواكب، كوكبا كوكبا، ويدفنها واحدا واحدا، وهكذا أيقن- بفطرته، وتجربته- أن إلهه ليس من عالم المنظور في الأرض أو في السماء.. إنه- سبحانه- القوة القائمة على هذا الوجود، والسلطان المتصرف فيه، والإله الذي لا يتحول ولا يتبدل، ولا يقع في حدود النظر.
وهذه النظرة التي نظر بها إبراهيم إلى النجوم هنا، غير تلك النظرة التي جاء ذكرها في الآيات السابقة، والتي كانت نظرة متسائلة متطلعة، سأل فيها النجم والقمر والشمس، وإنما كانت نظرته هنا نظرة مذكرة له بما كان منه وهو في سبيل البحث عن اللّه، قبل أن تأتيه الرسالة، وكأنه يدعو بهذه النظرة قومه إلى أن يسلكوا الطريق الذي سلك، وأن يهتدوا إلى اللّه بعقولهم كما اهتدى، إن كانوا يستنكفون من اتباعه، والأخذ بما يدعوهم إليه.. ولكن لم تكن لهم عقول تعقل، ولا آذان تسمع.. فولّوا عنه مدبرين.
وقد أقام أكثر المفسرين تأويلهم، لقوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ} على أن ذلك النظر كان في مواجهة قومه، وفى معرض حديثه إليهم حين جاء يدعوهم إلى عبادة اللّه، وترك ما يعبدون من أصنام.
والذي أقام المفسرين على هذا الرأى- في نظرنا- هو هذا العطف بالفاءات، المتلاحقة.. {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ. فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ}.
ولأن فاء العطف تفيد الترتيب والتعقيب- هكذا يقول النحاة- فقد جعلوا هذه الأحداث، حدثا واحدا، يضمها مجلس واحد، ويحتويها ظرف واحد من الزمان، لا تتخلله أحداث!.
ولو نظر المفسرون إلى أبعد من مقررات القواعد النحوية الضيقة، لرأوا أن بين الحدث والحدث هنا أزمانا ممتدة، قد تكون أياما، وقد تكون سنين.. فالتعقيب هنا ليس هو التعقيب الفوري، ولو كان ذلك لكانت رؤية إبراهيم للنجم، وللقمر، وللشمس، في ليلة واحدة، مع أن هذا غير وارد ولا معقول.. فقد يكون إبراهيم رأى النجم، ورصد تحركاته ليالى كثيرة، ثم تركه وصحب القمر أياما وشهورا.. وكذلك الشمس.. حتى وصل إلى هذا الحكم الذي قضى به في شأنها جميعا.
قوله تعالى: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ}.
ليس التولّي هنا، بعد نظرة إبراهيم نظرته في النجوم- كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين- وإنما كان توليهم عنه هو نهاية المطاف في دعوته لهم، ومحاجّتهم له.. فقد انتهى الأمر بينه وبين قومه إلى اليأس منهم أن يؤمنوا، وإلى اليأس منه أن يعبد ما يعبدون.. {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ}.
قوله تعالى: {فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟}.
أي تسلل إلى آلهتهم، ودخل عليها بيتها المعدّ لها، من غير أن يراه أحد.. ثم رأى بين يدى تلك الآلهة كثيرا من صنوف المأكولات والمشروبات، وألوان الهدايا التي كان يتقرب بها القوم إليها، فقال ساخرا هازئا: {أَلا تَأْكُلُونَ}؟ فلما لم يسمع جوابا قال متابعا سخريته:
{ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ}؟
قوله تعالى: {فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ}.
أي فنزل عليهم يضربهم بيده اليمنى، ويحطمهم حطما {فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً.. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [58: الأنبياء].
والتعبير بقوله تعالى {فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً} بدلا من: فأقبل عليهم ضربا للإشارة إلى أنه كان يفعل ما يفعل في حذر، وفى غير جلبة، حتى لا يحدث صوتا يكشف للقوم عما يجرى هنا!.
فالروغ، والرّوغان، ضرب من العمل، في ذكاء وحذر.
وقوله: {بِالْيَمِينِ} إشارة إلى الإرادة القوية التي كان يعمل بها في تحطيم هذه الأصنام، إذ كانت اليد اليمنى هى القوة العاملة في تنفيذ هذه الإرادة.
قوله تعالى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}.
أي حين رأى القوم ما حل بآلهتهم، ووقع ما وقع من اضطراب وبلبلة، وانتهى الأمر بينهم إلى أن إبراهيم هو الذي فعل هذه الفعلة بآلهتهم- أقبلوا إليه مسرعين، في خفة وطيش، ليمسكوا به، وليحاسبوه الحساب العسير على هذا الجرم العظيم!.
والزفيف: هو الصوت الذي تحدثه النعامة بجناحيها، حين تنطلق مسرعة من وجه خطر يتهددها، فتزّف بجناحيها.
وفى وصف القوم بهذا، تشبيه لهم بالنعامة في جبنها الذي يطير معه صوابها، حين ترى، أو تتوهم أنها ترى، خطرا، فتنطلق إلى حيث ترمى بها أرجلها، لا إلى حيث يدعوها عقلها، إذ كانت ولا عقل لها، ولا حيلة عندها، حتى إذا دهمها الخطر، دفنت رأسها في الرمل، وكأنها بذلك قد دخلت مأمنها!! وهكذا القوم في تصريف أمورهم.. إنهم نعام طائش لا عقل لهم، ولا تدبير عندهم.
قوله تعالى: {قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟}.
وقد كان لقاء القوم لإبراهيم، لقاء عاصفا مزمجرا، كثرت فيه الرميات بالوعيد والتهديد.. وقد ضرب القرآن الكريم هنا صفحا عن كل ما حدث، إذ كان لهذه القصة حديث في غير موضع منه.. واكتفى القرآن هنا بالإمساك بكلمة الفصل في هذه القضية:
{أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟}.
فهذه هى القضية.. وهذا هو السؤال الذي يحسم الأمر فيها.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ}.
أي أن اللّه خلقكم وخلق الذي تعملون من أصنام وغيرها.
كيف تعبدون ما تنحتون بأيديكم؟ أليس هذا الذي تنحتونه هو من مخلوقات اللّه؟.
إن هذه الأصنام التي تخلقونها بأيديكم هى من مادة خلقها اللّه قبل أن تخلقوها.. فكيف تعبدون ما تخلقون؟ أيعبد الخالق ما خلق؟ هذا وضع مقلوب!.
هذا، وقد كثر الخلاف في تأويل هذه الآية بين المعتزلة والجبرية، وأهل السنة، على اعتبار أن {ما} هنا مصدرية، وعلى هذا يكون المعنى أن اللّه خلقهم، وخلق أعمالهم.
وقد ترتب على هذا أن قال الجبرية- إن اللّه خالق أفعال العباد، واللّه سبحانه لا يخلق القبيح، وعلى هذا فالأفعال كلّها حسنة، ليس فيها قبيح.
وتعددت في هذا مذاهبهم، واختلفت مقولاتهم.
وقد أنكر المعتزلة هذا التأويل للآية، واعتبروا {ما} موصولة لا مصدرية، وقالوا إن العبد خالق أفعاله، الحسن منها والقبيح.. ففى الأفعال الحسن والقبيح، ومن ينكر هذا فإنما يكابر في بدهيات الأمور.
وقال الأشعري- من أهل السنة، وممثل رأيهم هنا: إن العبد مكتسب أفعاله، واللّه خالقها!!.
وهذه قضية استنفدت جهد العلماء.. وليس هنا مجال عرضها، وقد عرضنا جانبا من هذه القضية في مبحث خاص من هذا التفسير تحت عنوان:
مشيئة اللّه ومشيئة الإنسان- كما عرضنا هذه القضية بالتفصيل في كتابنا.
القضاء والقدر.
وبقي أن نقول إن {ما} في هذه الآية موصولة لا مصدرية، لأنها لو كانت مصدرية لكان قول إبراهيم لقومه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} لكان قوله ذلك حجة عليه لا له.
قوله تعالى: {قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}.
هذا هو الحكم الذي انتهى إليه رأى القوم في إبراهيم، وهو أن يموت حرقا بالنار، جزاء له على ما فعل بآلهتهم، فليس لمن يفعل هذا إلا أن يلقى هذا العذاب الأليم.. إن إبراهيم كان يحذّرهم نار الآخرة التي يعذب بها اللّه سبحانه الذين يعبدون هذه الأصنام.
وهاهى ذى الأصنام تعذّب بالنار من يعبد غيرها!! أليست آلهة؟ وأليس للإله أن يعذّب بالنار من يكفر به، ويتعدّى حدوده؟.
قوله تعالى: {فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ}.
أي أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم، وأن يأخذوه بهذا العذاب، فنجى اللّه إبراهيم من النار- كما نجى نوحا من الطوفان- وجعلهم هم الأسفلين، كما جعل قوم نوح في قرار الطوفان، وجعل نوحا فوق الطوفان بسفينته.

1 | 2 | 3 | 4